
تواجه الدولة الموريتانيَّة وحيدةً أزمات مُربكة في محيطها المضطرب أمنيًّا وسياسيًّا في مجموعة دول الساحل والغرب الأفريقي بصفة عامة ، فهذه الدول تعاني شعوبُها من ضعف بنيانها الإداري والعسكري والاقتصادي بسبب تعدد الانقلابات العسكرية وتردِّي الأوضاع المعيشيَّة والخدمات فيها ، وكذلك الانعكاسات السلبيَّة للتناحرات بين المغرب والجزائر ، و داخليَّا تواجه الدولة الموريتانيَّة إعلامًا منفلتًا وانعدام الوعي بغلبة هذه التحديات مع تنامي روح اللامبالاة لدى الكثيرين تجاه الشأن العام الجامع والتراشق بالفساد، ، كما أنَّ معطيات الحال في العالم من ارتدادات الهمجية الإسرائيليَّة وعدوانها على لبنان وغزة وسوريا ، و مخلَّفات حرب أوكرانيا وطرد فرنسا من دول الساحل ، ورغم كل ذلك استطاع الرئيس غزواني أنْ يبرز محوريَّة الدور الاستراتيجي لبلاده فبدأ منذ أولى سنوات حكمه بتحديث البنية العسكريَّة للجيش الموريتاني على مستويات متعددة من شراء أسلحة عديدة ونوعيَّة ومتنوعة المصادر ورفع الكفاءة القتالية للضباط والجنود والاهتمام بهم في إطار فلسفة القفز والارتقاء والحماية ، هذه الفلسفة العميقة هي التي أظهرت هذه المحوريَّة وهذا الدور الاستراتيجي ، كما ساهمت في تحديد وإظهار الاحتياج الدولي لبلاده ، فاستغلها في إطار فلسفة واضحة في بناء الدولة اقتصاديَّا وتنمويَّا ، واستغلال كل المعطيات المتاحة واللعب على المتناقضات بذكاء ، استنادًا إلى خبرات أمنيَّة تراكمت على مدى عقود ، وروح صوفيَّة تميل إلى التجرُّد والتجريد ، وهنا تتضح أهم قواعد فلسفة الرئيس غزواني في حكمه والمتمثِّلة في النأي ببلاده عن التحالفات الموجهَّة و التزام الحياد الإيجابي ، فلم يرهن قرار بلاده ولا موقفها الدولي في غرف الحكم وأروقة أجهزة المخابرات الدوليَّة الكبرى والإقليميَّة ، وكذلك إدراكه لتأثير التطورات الأمنيَّة التي تمر بها منطقة الساحل على بلاده فعمل على هذا التحديث البنيوي في الاقتصاد والجيش ، ليكون قادرًا على الصمود أمام التغيرات الجيوسياسيَّة، ويحافظ على الاستقرار الذي يراه أهم احتياج لبلاده كي يستطيع البدء في استغلال مواردها بطريقة آمنة وتكون لديه القوة التي تحمي هذا الاستقرار وتطمئن المستثمرين والجهات المقرضة والمانحة حتى تستطيع حكومته التخفيف من آثار الفقر والانطلاق نحو التنمية الشاملة . وبناء دولة حقيقيَّة وتعزز الاستقرار السياسي، والابتعاد عن المواقف المتشدِّدة التي تستغلها قوى داخلية بتواطؤ أحيانًا مع قوى إقليميَّة، في إطار سياسة المحاور والاستقطابات والاستلابات ، هذه المحوريَّة دفعته لتحركات استباقيَّة تحمي دولته وتوقف محاولات التدخُّل في الشأن الداخلي ، وتبدِّد التوجُّس من المواقف الموريتانيَّة تجاه القضايا الإقليميَّة مؤكِّدًا أنَّ مواقفها تنبع من حرصها على سيادة القرار الموريتاني واستقرار الجيران ؛ ومن هنا جاءت زيارة الفريق حننا ولد سيدي حننا وزير الدفاع الموريتاني إلى الجزائر ولقائه مع قائد الجيش «شنقريحة « في ظل التوتر الحاد بين مالي والجزائر وبين الجزائر وفرنسا وحديث الوزير حننا – بناء على توجيهات الرئيس غزواني – استعداد موريتانيا للوساطة بين مالي والجزائر ، وهنا يبدو الاحتياج الجزائري الفرنسي المشترك رغم التناقضات فيما بينهما ( فرنسا والجزائر ) للدور المحوري والمؤثر للدولة الموريتانيَّة وزير الدفاع الموريتاني ناقش مع نظيره التطورات الأمنيَّة في منطقة شمال أفريقيا والقارة الأفريقيَّة ، وأرى أنَّ هذا التحرُّك قد بني على فلسفة الرئيس غزواني في بناء الدولة وتحديث الجيش وحنكة وحكمة وزير دفاعه و خبرة حننا العسكريَّة والاجتماعيَّة التي تراكمت على مدى عقود كابن لأهم أمراء وقادة الشرق الموريتاني في إطار قبيلة كبيرة ( أولاد داوود ) تمتد نفوذها وعلاقتها إلى جنوب الجزائر وشمال مالي ، ولتأثيرات نشأته الأولى في مدينته الحدوديَّة «باسكنو» المتلامسة مع أزواد ، فهو بحكم التداخل الإنساني والامتدادات القبليَّة يعرف جيدًا كل المناطق الحدوديَّة لموريتانيا وساكنيها وكذلك لخبراته الأمنيَّة والعسكريَّة الممتدة عبر عقود و التي توجها بقيادة القوات المشتركة لدول الساحل الخمس G5 عام 2018 قبل توليه وزارة الدفاع و هو ما تجلَّى في تصريح زير الثقافة الموريتاني – الناطق باسم الحكومة - الدكتور الحسين ولد مدو، باستعداد موريتانيا للعب دور الوساطة لحل الأزمة بين مالي والجزائر وانعكاساتها على الوضع في المنطقة، سواء بدبلومسيَّتها، أو بحكم موقعها و أنَّ «موريتانيا تمد يدها في الدور الذي تستطيع لعبه بين الأشقاء». وأرى أنَّ الوساطة الموريتانيَّة يمكنها أن تمنع نارًا من الاشتعال في ظل تهور غير محسوب لقادة الانقلابات العسكريَّة الشباب في مالي وبوركينا والنيجر الذين يفتقدون الخبرة السياسيَّة والحس الأمني الاستراتيجي ومشغولين فيما أعلم – من بعضهم – بأزمات داخليَّة ضاغطة وتزمر شعبي يتنامى ، وتحت أيديهم جيوش متحمسة وحلفاء (روسيا والصين ) يغرِّرون بهم ، وهنا أعتقد أنَّ حنكة وحكمة رئيس موريتانيا ووزير دفاعه هي التي قادت الوزير إلى الجزائر لوأد الأزمة في مهدها باعتبار أنَّ «الأمن اليوم لم يعد أمنَا وطنيَّا أو قِطريَّا بقدر ما هو أمن إقليمي».. كما قال الدكتور الحسين ولد مدو وزير الثقافة الموريتاني .
الدكتور أيمن السيسى
نائب رئيس تحرير جريدة الاهرام