إنَّ في شهور العطلة سحرا وروحا وطنية لا تعرفهما بقية الشهور. ففيها يعود العديد من المهاجرين الموريتانيين من مُهاجَرهم. ولا يكاد العديد منهم ينزل ويسلّم على أرحامه الأقربين حتى يهاتفك بلطف ليقتطع لك من عطلته القصيرة موعدا وجلسة ظريفة.
ومن العادات الحسنة لمهاجرينا أن يأتوك في الموعد تماما، متواضعين، غرباءَ، وأن يدخلوا في الموضوع مباشرة. وليس شيءٌ أحبَّ إلى قلوبهم من حديث منظم عن حالة البلد ومستقبله، أو أملٍ وطني هنا، أو فرصة تنموية هناك، أو مشروع سياسي أو اجتماعي مقنِع يمكنهم الاستثمار فيه.
يهاتفك شابٌّ قادم من أقصى بلاد الله، لا تربطك به رحِم ولا صداقة، ولا سابقُ معرفة. وهو - ما شاء الله - من الناجحين الذين لا تعترضهم مشاكلُ مالية ولا أكاديمية ولا مهنية. لكن يتبين لك من خلال حديثه الصادق - حدَّ البكاء - أن عنده مشكلا أكبر من ذلك كله، وهو القلق على مستقبل بلده الجميل ومجتمعه العزيز.
بعد ذلك، وفي الصيف نفسه، يتصل بك مهاجر خمسيني قد بلغ أعلى مراحل الأستاذية لدى جامعات ومعاهد مرموقة ليخبرك أنه قرر العودة إلى موريتانيا وخدمتها من أي موقع، سياسيا واقتصاديا وعلميا، والبحث عن شركاء في ذلك.
وهذا عبقري موريتاني آخر يعمل منذ عقود في إحدى أكبر شركات العالم وأكثرها تطورا، يريد مقابلتك ساعاتٍ قبل سفره إلى الخارج. لا لشيء سوى المذاكرة في وضع موريتانيا وسبل المشاركة في تحسينه؛ لتقف على ذلك المهاجر الخمسيني وقد قدم قبل الموعد بدقائق فجلس ينتظر أمام العمارة، لابسا أبسط الثياب وأقلها ثمنا، وواضعا رجلا على أخرى، وسْطَ غبار كثير نثرته الأيام الأخيرة من شهر مايو على شوارع نواكشوط.
إنها الأيام نفسها التي ألهمت النظام في بحثه عن مبرر لوقف حواره. فقد قال السيد الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية في كلمته القاضية على ذلك الحوار، أو التشاور، إن المناخ السياسي مضطرب اضطرابَ مناخ نواكشوط. يعني في تلك الأيام بالذات.
أمام هؤلاء الغرباء الموريتانيين، تتراءى للمرء صوَر حية التقطها يوما ميخائيل نعيمة لرفيقه في المهجر جبران خليل جبران: «على مقعد منفرد بالقرب من نوتردام كان شاب غريب كأنه في خضم البشرية الباريسية نقطة من الزيت في بحر من الزئبق. عليه ثياب تكاد تكون ثياب فقير لولا ما فيها من نظافة وهندام.»
وقبل ذلك بأشهر، يبعث لك أستاذ موريتاني كبير، يدرِّس في جامعات عالمية معروفة رسالة مختصرة مؤلفة من جملتين، إحداهما في الهم العام، والأخرى عرض شخصي يفيد ذلك الهم.
وهذان عبقريان موريتانيان يعمل كل منهما في شركة عالمية عملاقة ويدير مشاريع علمية وصناعية كبيرة. أما أحدهما فيسابق الزمن ليزورك دقائق في البيت ويخبرك أنه لا يفهم من السياسة شيئا لكنه يحمل هم موريتانيا ثم يودعك. بينما يزورك الآخر في المكتب ليسمع منك وليعطيك جرعة من الأمل، ويزودك بما شاء الله من أفكار النجاح. وكلهما يعرب عن شعوره بالتقصير تجاه البلد واستعداده لخدمته.
هذا عن المهاجرين المهتمين بالشأن العام، متسيسين وغير متسيسين؛ لتبقى الأغلبية الصامتة وما تحويه من عقول مستقيمة وطاقات حية يتجنب أصحابها الكلام في كل ما له علاقة بالسياسة، لعدم ثقتهم فيها وفي أهلها. لكن لا إصلاح ولا تغيير ولا تطور بدون السياسة؟ لكن بالمعنى الحقيقي النبيل الرفيع للكلمة.
وخلاصة الأمر أننا نرى كثيرا من مواليد عقد الستين، الذين يقال إنهم أحسن الأجيال الموريتانية تعليما، وهم على أبواب التقاعد في مؤسسات وشركات ومراكز عالمية كبرى، دون أن يفكر البلد في الاستفادة منهم. وليسوا في ذلك بدعا. لا من الأجيال ولا من الفئات.
رأيت بأم عيني شبابا رائعين من خريجي مدرستنا الرائدة وتجربتنا الناجحة، المدرسة العليا متعددة التقنيات، وغيرها، ممن خرجوا مهندسين جاهزين للعمل ومتحمسين للابتكار. حتى ملابسهم المدنية المناسبة للعمل ورياضتهم اليومية ومتابعتهم للتطورات العلمية والدوريات المختصة ما زالوا مواظبين عليها. وبعد أن يقضوا الشهور والسنين في البحث عن عمل في بلدهم، يتدخل لهم هذا عند ذاك، وفي ميدان لا علاقة له بتخصصاتهم. حتى إذا قنطوا شدوا الرحال إلى دول أخرى تقدر الكفاءات والطاقات. إن بمقدور أولئك الشباب وأمثالهم إصلاح الكثير وإنتاج الكثير.
وفي صيفنا هذا، يتصل بك شابٌّ أكاديمي ورجل أعمال ناجح يقيم منذ عقدين في الخارج. لكنه يعود في كل فرصة ويشارك زملاءه التقدميين كل أمل وألم وفرصة ويدعمهم بالمال والوقت والأفكار. أما رجال الأعمال وغيرهم من المهاجرين في إفريقيا والمشرق، والذين يعُولون مئات الآلاف، أو الملايين، فإن مبادراتهم الخيرية وتدخلهم أوقات الكوارث وفي المناسبات الإنسانية معلوم.
ويزورك قبله وبعده شاب أكاديمي قادم من جزيرة العرب في عطلة قصيرة، وقد قطع رحلته الانتجاعية خارج نواكشوط أكثر من مرة كي يجالسك ويواكبك، ثم يودعك متأسفًا ومتعهدا بالمواصلة.
إن للجالية الموريتانية في الخارج نفسية لا يستوعبها إلا من صحِبها وطارحَها. ولأهلها معاناة لا يدركها إلا من ودّعهم في نهاية العطلة، أو من خبَر الغربة وتوالت عليه فيها موت القريب والبعيد، وأثقال الأهالي وأحمال الوطن، وتابع عن بعد مَشاهد الانهيار والارتجال والغبن والفساد. يتابع المهاجرون الأخبار المحلية أكثر من متابعتنا نحن المقيمين لها.
إنهم مُقبلون في زمن الإدبار، متفائلون في زمن الإحباط والقنوط. حمَلةٌ للهم العام. لكنا ظلمناهم كثيرا. لكنهم ظلموا أيضا أنفسهم.
والحق أن المهاجرين ليسوا إلا مرآة عاكسة لشعب مظلوم. فلَكَم حوى هذا المجتمع - قديما وحديثا - من عاقل وعالم وخبير، ومن صادقٍ متعفف وطني شجاع لا يريد أن يُثري من موريتانيا أو من حق غيره، وإنما يريد إصلاحا واستقرارا وتطورا وتنافسا في الخير والنجاح. لكن خلاف ذلك هو المشاع بين الناس: الكل عندهم أنانيون مفسدون، أو جواسيس، أو جهويون، أو متكبرون، أو رُوام شهرة وركاب أمواج… حتى بلغ الأمر ببعض الطيبين أن يقول لك: أُجِلُّك يا فلان عن الحديث عن المصلحة العامة! أو أُجِلُّك عن ذكر النخبة، أو أن تتحدث عن إصلاح موريتانيا.
ومن نظر إلى فئات المجتمع الأخرى سيرى كثيرا من سوء المعاملة وعدم التقدير. ومِن أقسى ذلك وأصعبه على النفس أن ترى مَن درَّسوك وهذبوك، مِن معلِّمين وأساتذة، يتقاضون معاشا شهريا لا يسد رمقهم أسبوعا واحدا. وقُل الشيء نفسه عن جِلة القضاة العلماء المشاهير، وكذا جميع المتقاعدين. المتقاعدُ هنا أشبه بالمقبور حيا. إنها حالة إنسانية لا توصف.
المهاجرون محوريون في كل المجتمعات، ومحوريون أكثر في المجتمع الموريتاني. لاعتماد كثير من الأسر عليهم، ولانتشار الوعي فيهم واستقلالهم عن السلطة وعن منظومات الجمود. شأنُهم في ذلك شأن مئات الآلاف من الشباب الذين بلغوا للتو سن الانتخاب. الكلُّ عصي على التدجين لكنه ليس عصيا على التغييب والتزوير.
ويتميز المهاجرون بقوة التأثير على الأهالي، أو قدرتهم على ذلك، وبعدهم عن يد القمع والسجن والتجسس. كما أن عندهم - في الغالب - وقتا أوسع ووظائف يكفيهم دخلها مؤنة البحث عن وظيفة أخرى، ومدارس تكفيهم مؤنة تدريس أبنائهم في البيت. لكن الإرادة شيء آخر. والتنظيم شيء آخر. مع علم الجميع بقدرة الجالية على الانتظام أكثر من غيرها.
إن الحالة العامة للدولة والمجتمع تدعو الجميع، وبإلحاح، إلى بذل مجهود أكبر، وإلى إمداد الساحة السياسية والسلطتين التشريعية والتنفيذية بممثلين مصطفَيْن عن الجالية، وآخرين عن الشباب وأوساط الفقر والمعاناة، وغيرهم.
ومن أجمل ما خاطب به نعيمة رفيقه في المهجر قوله: «زحمتك السنون يا جبران. وهي مصيبة في ما تقول: - من كان بطيء الحركة فليتنحَّ من طريقتنا. - وأنت بطيء الخطى. فماذا فعلت حتى اليوم؟ وراءك عشرون عاما - إنها مقدمة طويلة للا شيء. كفاك تفرُّجا مع المتفرجين وآن لك أن تكون من بين من يتفرج عليهم المتفرجون.»
وجاء في وصفه لرابطتهم القلمية المشهورة التي أسسوها في الخارج قوله: «كانت لنا بوقا صافي الصوت لا نخجل من أن ننفخ فيه من أرواحنا. وكانت يدا جميلة ونظيفة يلذ لنا أن نضع في راحتها نتفا من قلوبنا لتحملها إلى من تهمهم قلوبنا وأفكارنا.»
نرجو أن ينعقد عاجلا مؤتمر خاص بموريتانيي المهجر وأن يكون ذلك تقليدا سنويا أو موسميا، يشارك فيه ممثلون لموريتانيي الداخل. وينبثق عن ذلك تنظيم محكم ومشاركة أقوى، ومطالب واضحة على رأسها تسهيل وتعميم المشاركة في الانتخابات، اقتراعا وترشحا. وعندها ستتبين محورية هذه الفئة.
وعلى كل حال، يُعد الاقتراع من أبسط حقوقهم وآكدها، وكذلك الترشُّح. وما فائدة انتخابات لا يشارك فيها موريتانيو المهجر؟ إنها خالية من المعنى، وخالية من المروءة، بمعناها الموريتاني الأصيل!
ليس مطلوبا من الدولة أن تجعل الناس يسبحون في الترف والرفاه، أو تجعل الدنيا (فيظ بيظ) كما يقول الحسانيون. لكن عليها فتح الأبواب والطرق أمام المجتمع، وخلق مجالات للتحرك والإنتاج وممارسة الحقوق، والتنافس الشريف، والمساواة في الفرص.
ليبقى السؤال التالي مطروحا، على المهاجرين، وعلى كل فئة موريتانية: هل نريد دولة؟ هل تريد جاليتنا في الخارج دولة؟ وهل يريد الشباب دولة؟ هل تريد النخبة دولة؟ وهل يريد المواطن البسيط دولة؟ هل يريد العسكريون دولة؟ وهل يريد الساسة دولة؟ وهل يريد رجال الأعمال دولة؟ هل تريد الموالاة دولة؟ وهل تريد المعارضة دولة؟
أحمد بن هارون