عام 1968، كان لدي صديق من أسرة أهل الشيخ محمد فاضل ولد مامينّا، ربما لا يريدني أن أذكره بالاسم … مولود في مدينة "تامباكوندا"، عاصمة "كازماصا" بالسنغال. تعرفت عليه صدفة في شوارع حي "point E” قرب جامعة دكار. و بهرني الشاب الأسمر بحيويته وطلاقة وجهه وأريحيته. وأحببته و قربته تقريبا. لم يكن يعرف شيئا عن موريتانيا وأهلها، ولا يجيد اللهجة الحسانية … قضيت مع ذلك الفتى عاما كاملا من السياحة والتجول في السنغال : في السينما، والحفلات، والمقاهي، وملاعب كرة القدم، إلخ.
كنا أخلاء بما في الكلمة من معنى. ندبر حالنا بمساعدات و ديون نأخذها من هنا وهناك من معارفنا في دكار بالإضافة إلى منحتي الدراسية. وذات يوم من الأيام كانت أيدينا و جيوبنا فارغة تماما. مررنا بجميع الأقارب والأصدقاء، ولم نجد شيئا. كان واضحا أن الخلق ضجر منا وسئم طلباتنا. بينما نحن هكذا، في حالة قنوط و يأس، إذ قال لي صاحبي: "سوف أكذب كذبة حمراء برجاء أن تعطي نتيجة". قلت له: وما هي؟ قال: "نشتري لثاما أبيض (حَولِ) طويلا وعريضا (نص بَيصة من بركال)، ونذهب به إلى شخص في مدينة "انگاي مخّه" يقال إنه "تلميدي" لشيخنا الشيخ محمد فاضل. لا اعرفه ولا أعرف ما اسمه. ونقول له "إن الشيخ أمرنا بالمجيء إليك و تسليمك هذه العمامة تتويجا لك في الطريقة". و أضاف: "أظنه سيفرح فرحا عظيما ويعطينا من الفلوس ما يكفينا". وافقت على الأمر، وأخذنا 5000 افرنك (1000 أوقية ق) سلفة من أحد الطلاب، واشترينا الحَولِ ، و سافرنا باتجاه "انگاي مخه Ngaye Mékhé)" التي لا نعرف شيئا عنها. لم نزرها من قبل، ولا نعرف حتى أسم الشخص المستهدف بالكذبة الحمراء.
وصلنا المدينة زوالا، و والله لا ندري إلى أين نتجه. غير بعيد من محطة الحافلات رأينا أعمدة دخان تتصاعد في السماء. وعشرات السيارات و مئات "الشريتات" و حشود كبيرة من الناس داخل ساحة مسقوفة بالباشات. قلت لصاحبي "لنذهب إلى ذلك المكان، حيث يقام حفل "انگنْتَ" أو "زفاف" أو ما شابه. تقدمنا باتجاه الحفل، فإذا بنا محط أنظار الناس و محل اهتمام وعناية من قبل الجميع.. كلما مررنا بجماعة رافقتنا. وكلما تقدمنا في المسير كلما تعالت الأصوات : حيدرة! حيدرة!. وبعد دقائق تبيّن لنا أنّ في الأمر "إنّ". اتضح أن القرية في حالة انتظار وتأهب لاستقبال وفد عظيم. الناس من حولنا كلهم غناء و رقص و فرح و بهاء. سألت أحد الأشخاص عن ماذا يجري؟ قال: "تعالوا معي! حيدرة، حيدرة، الشيخ ينتظركم".
دخلنا القاعة وسط ازدحام كثيف، و ما إن بدأ صديقي يقدم نفسه حتى جن الناس جنونهم. امتلأت الساحة تصفيقا وثناء و بكاء و دموع فرح. اندلع صخب لا يكاد يوصف. هذا يقبل اليد، وهذا يقبل الرأس، و هذا يتبرك بالثياب. وحتى أنا العبد الفقير بدأت أوزع البركات والدعوات الصالحات على اليمين وعلى اليسار.
بعد أن هدأ الحال.. قالوا لنا إن الرجل المعني حامل لكتاب الله وإمام مسجد القرية منذ عقود، وصانع أحذية. وقالوا إنه قال منذ عشرة أيام بأنه رأى في المنام أن الشيخ محمد فاضل يرسل له عمامة بيضاء مع أحد أحفاده، و طلب من الجميع حضور حفل تتويجه في هذا اليوم بالضبط وفي هذا التوقيت بالذات.
بقت هذه الأحداث التي عشتها بنفسي محفورة في ذاكرتي لشدة تأثري بها... قصة بدأت بكذبة حمراء من مراهقي في دكار و انتهت برؤيا لرجل مسن في انگاي مخَه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الوزير السابق محمد فال ولد بلال