بينما كنت أسعى إلى توصيل الكهرباء إلى منزل جديد، فتحت دفتر اتصالاتي عله يسعفني برقم هاتف صديق أو زميل دراسة ابتسم له الحظ، لمساعدتي في الحصول على الخدمة دون فترات الانتظار التي قد تطول.
كان الطرف الثاني على الهاتف، في كل مرة، يرد معتذرا بأن مسؤول الإدارة المعنية مدير "يصعب التعامل معه"، وربما أضاف أحدهم وصفا آخر.
شاءت الأقدار أن تقع عيني على مقال يتحدث عن المسؤول آخذا عليه أنه يطلب من العملاء تقديم ملفاتهم بأنفسهم ويرفض الوساطة واستقبال المعاملات من أشخاص غير معنيين. وهو أمر لم يستسغه كاتب المقال، الذي مدح الرجل من حيث أراد أن يذمه. فمتى كان قبول معاملات الجمهور وقضاء حوائجهم دون الحاجة لوساطة يعتبر ذما؟
عندها، قررت أن أتوجه إلى الإدارة المعنية مباشرة بالتوصيلات في شركة الكهرباء. أول ما لفت انتباهي أن الممرات خالية من الوسطاء الذين تعج بهم بعض الإدارات الخدمية وكانت مكاتب المسؤولين مفتوحة على مصراعيها رغم الحر الشديد.
سألت البواب عن المدير، فأجابني: "إنه الرجل الذي تراه جالسا هناك". دلفت إلى غرفة المكتب لتقفز إلى ذاكرتي كل الكلمات التي كنت سمعتها من الأصدقاء الذين اتصلت بهم.
استقبلني المدير بأدب والابتسامة تعلو مُحيّاه وطلب مني أن أجلس وسألني عن معاملتي. بعد أن شرحت له الخدمة التي أريدها، أبلغني أن الأمر لا يتطلب إلا إجراءات عادية في قسم آخر، وأنها تتعلق بقياس المسافة وإعداد فاتورة بالمبلغ الذي ستكلفه هذه الخدمة. بل وزاد أن استدعى الموظف المعني وكلفه بمرافقتي والقيام بما يلزم.
عند عودتي، وضع تحت تصرفي فريقا من أربعة عمال لإنجاز التوصيلات إلى المنزل. لو كان الأمر انتهى عند هذا الحد، لكان قد قام بعمله على أكمل وجه. لكنه زار العمال ثلاث مرات في اليوم نفسه خارج أوقات العمل الرسمي، ليطمئن على سير العمل.
لم تكلفني هذه الخدمة سوى شراء المستلزمات بنفسي بمبلغ زهيد مقارنة مع ما كنت سأدفعه والوقت الذي كنت سأضيعه لو أنني اضطررت إلى الاستعانة بالوسطاء الذين غالبا ما تكون نتيجة خدماتهم رديئة وقلما تحترم المعايير.
كل هذا والمسؤول لا يعرفني ولم يكلف نفسه أن يسألني عن اسمي ولا جهتي ولا مهنتي.
خرجت من هذه التجربة بأن المشكلة التي تقف أمام إصلاح إداراتنا العمومية والخدمية تكمن فينا نحن الشعب الموريتاني. فكلما أراد مسؤول أن يرفض الوساطات والرشوة، وأن يصحح الأخطاء ويخدم شعبه دون محسوبية أو زبونية، صبت عليه نقمة بارونات الفساد وبعض وسائل الإعلام والوسطاء الذين يسعون بكل ما أوتوا من حيلة إلى الحفاظ على الفوضى.
من خلال ملف المعاملة، عرفت أن المسؤول المعني هو المهندس مختار محمد الإمام. فهنيئا للشعب الموريتاني به وبأمثاله.
وهنا، أوجه دعوة لكل الموريتانيين للإشادة بالمسؤولين الذين يؤدون عملهم بعيدا عن الزبونية والمحسوبية والوساطة.
وإذا كنا عاجزين عن ملاحقة الفساد والمفسدين، فلا أقل من أن نذكر أبناءنا المخلصين الذين يؤدون عملهم في صمت بإخلاص وتفان رغم كل شيء.