تقول أسطورة متداولة بغرب أفريقيا إن القدر قال للبقر "أعط الناس لحمك وجلدك ولبنك وظهرك"، فقالت "سمعا وطاعة، ولكن ماذا سأجد مقابل ذلك"، وجاء الجواب "لقد أعطيناك قبيلة اسمها الفلان ستخدمك أبد الدهر".
وتحكي أسطورة فلانية أخرى، أن الله لم يخلق الفُلان إلا للبقر، ولم يخلق البقر إلا للفُلان، وإن جدهم الأعلى (يسمونه أولو يلادِجاجه) لما خرج فجأة إلى الكون كان أول ما وقعت عليه عيناه الشمس والبقر، ومن تلك اللحظة نشأت علاقة غاية في القوة والغرابة بين الطرفين.
وبغض النظر عن الأساطير المتداولة بشأن منشأ العلاقة بين الفُلان والبقر؛ فإن الواقع أنهم لم يعرفوا منذ الأزل القديم جارا ولا ملكا ولا صديقا أوفى لهم من البقر، فقد تناهشتهم في أصقاع ومناطق متعددة سهام الحروب والتمزيق والتصفية، وظلت الأبقار البيض ذات القرون الهلالية الضخمة الصديق الوفي، وربما لم يجد البقر -في أفريقيا على الأقل- ما وجده من الاحتفاء إلا عند الفُلان، الذين ينزلون درجة أو درجتين عن مستوى حب بعض الهنود للبقر، فهم لم يعبدوه ولكنه "استعبدهم" كما يقول خصومهم.
ليست قصة الفُلان مع البقر إلا جزءا أو عنصرا واحدا فقط من هوية هذه الأمة السمراء التي اعتنقت الإسلام منذ قرون، وخدمته بهمة ودأب وإخلاص، وأقامت ممالك وإمارات، ثم واجهت أنكى وأشد تصفيات المستعمر في أفريقيا، حيث كانت قراهم وهويتهم بل وجودهم في مرمى نيران الفرنسيين وإلى اليوم، والسبب دائما هو استعصاؤهم الثقافي على التطويع التغريب كما يقولون.
الفُلان.. أمة الإسلام وخصوم فرنسا بغرب أفريقيا
يتوزع الفُلان على أكثر من 18 دولة أفريقية تمتد من موريتانيا غربا إلى السودان شرقا، ومن موريتانيا شمالا إلى الكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى جنوبا، مع جاليات مهاجرة في أنحاء الدنيا، وخصوصا في المشرق الإسلامي وأوروبا، ويصل عددهم التقريبي إلى أكثر من 40 مليونا، مما يجعلهم واحدة من أكبر وأهم القوميات الأفريقية.
ففي نيجيريا على سبيل المثال، يصل عدد الفُلان إلى قرابة 16 مليون شخص، من بينهم الرئيس الحالي للبلاد محمدو بخاري، كما ينتمي إلى هذه القومية أيضا رؤساء أفارقة عديدون، منهم الرئيس السنغالي ماكي صال، والرئيس الغامبي آداما بارو، ورئيس غينيا بيساو عمر المختار سيسوكو مبالو، وفي تاريخهم المعاصر مئات السياسيين والكتاب والمثقفين وسجناء الرأي والمعارضين الألداء في كثير من بلدان غرب أفريقيا.
وتقدر دراسات متعددة أعداد الفُلان حسب توزعهم على النحو التالي (16 مليونا في نيجريا، 5 ملايين في غينيا كوناكري، و3 ملايين في مالي، وحوالي 4 ملايين في السنغال، وقرابة 3 ملايين في الكاميرون، وحوالي 1.2 مليون في بوركينافاسو، وحوالي 600 ألف نسمة في تشاد، وقرابة نصف مليون في موريتانيا، زيادة على عدد مماثل في ساحل العاج، وحضور معتبر في السودان، في حين يتراجع العدد في غينيا بيساو وغامبيا إلى قرابة 320 ألف شخص.
ويعتبر الفُلان إحدى الحواضن الاجتماعية الأصيلة للإسلام والثقافة العربية، وقد مكنهم انكماشهم واستعصاؤهم الحضاري من المحافظة على هويتهم نقية، ولم تستطع محاولات التنصير المتكررة تحقيق اختراق يذكر في الهوية الإسلامية للفولان.
وقد أسهم الفُلان في التاريخ السياسي والديني في أفريقيا بجهود معتبرة، منها على سبيل المثال:
– دولة الإمام عثمان دان فوديو، وهو أحد أبرز رواد الحركة الإصلاحية في غرب أفريقيا، وكان من أبرز مريدي وتلاميذ الشيخ الشنقيطي سيدي المختار الكنتي، ثم تأثر بعد ذلك بالحركة التجديدية في المشرق الإسلامي، وكان له دور عظيم في نشر الإسلام ومواجهة الوثنية في غرب أفريقيا وخصوصا في منطقة نيجريا والنيجر، حيث كانت مملكة سوكوتو (1808-1903) التي نشأت امتدادا لدعوة الفقيه عثمان دان فوديو محضنا تاريخيا للإسلام والهوية العربية إلى اليوم.
– الحاج عمر الفوتي (1796-1864): وهو أحد رموز المقاومة والجهاد في غرب أفريقيا، واشتهر بدعوته ومقارعته سلما وحربا للوثنيين في المنطقة، حيث تذكر بعض المصادر أنه خاض أكثر من 30 معركة ضدهم، وترتب على ذلك دخول أعداد كبيرة منهم في الإسلام.
سعى الفوتي لتحقيق وحدة بين مسلمي المنطقة في ظل دولة إسلامية في الغرب الأفريقي، ولكن الصراعات المفتوحة مع أكثر من طرف سواء مع أعدائه الوثنيين، أو خصومه من "القادريين" لم تسمح له بتحقيق هدفه، حيث انتهى به المآل قتيلا في معركة مع بعض خصومه.
يعتبر الفوتي أحد أعلام الطريقة التيجانية في الغرب الأفريقي، وكان مؤلفا وشاعرا ذا كتب كثيرة في نصرة مذهبه السياسي والفكري والمنافحة عن الطريقة التيجانية، ومنها كتابه المعروف "رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم".
– دولة الأئمة في منطقة نهر السنغال (أو "ألماميات"، وفق النطق السائد في المنطقة) وقد تأسست هذه الدولة بمنطقة نهر السنغال، ولكنها توسعت وتمددت إلى مناطق أخرى، وكان يتولى زعامتها القضاة والعلماء المتبحرون في علوم الشريعة واللغة العربية، وكان لها دورٌ بارز في نشر الإسلام واللغة العربية في أفريقيا الغربية خلال القرنين الـ18 والـ19.
كما كان لها دور كبير في مقاومة المستعمر الفرنسي، وأقام علماؤها تحالفا كبيرا مع قبائل عربية على الضفة اليمنى من نهر السنغال، وتأثروا بالزعيم الديني ناصر الدين الديماني في القرن الـ17.
– الحاج محمود با: قاد هذا الشيخ الموريتاني حملة واسعة وكبيرة من أجل نشر الثقافة العربية والإسلامية في غرب أفريقيا، وفي شبيبته أصيب بعور في إحدى عينيه عندما كان راعيا للبقر في إحدى البوادي فأطلق كلمته الشهيرة "لأن أكون العالم الأعور، خير من أكون الراعي الأعور" فانطلق في تحصيله العلمي في رحلة شملت موريتانيا ومالي والأزهر الشريف والحرمين المباركين، قبل أن يعود إلى بلاده منتصف أربعينيات القرن الماضي، ويشرع في توجيه الشباب الفُلاني إلى الأزهر لتلقي المعارف الإسلامية، وهو ما أغضب المستعمر الفرنسي الذي أرغمهم على العودة إلى البلاد.
لكن جهود الحاج با أثمرت بعد ذلك في سلسلة مدارس الفلاح الإسلامية التي أقامها في مختلف دول غرب أفريقيا، وزادت على أكثر من 30 مدرسة قاومت المد الفرنكفوني والاستعماري، وحفظت الهوية الإسلامية في بلدان كثيرة، وتخرج فيها آلاف الطلاب والعلماء.
وفي صفحات التاريخ عبق مفعم بالحضور الإسلامي في هوية الفُلان، وما زالوا لحد الآن من أكثر الشعوب الأفريقية تمسكا بالإسلام، وهو ما جلب لهم عداوات محلية ودولية متعددة، وخصوصا من فرنسا التي يتهمها الفُلان بالوقوف وراء كثير من المجازر التي تعرضوا لها في مالي خلال السنوات الأخيرة، وكذا بالوقوف الصارم أمام مطامحهم السياسية في بلدان عديدة خصوصا في غرب أفريقيا.
أصول الفلان.. روايات متعددة
يتناغم الشتات الفُلاني في ظلال الجغرافيا مع شتات آخر في حقائب التاريخ والأيام، وما زال سؤال الأصول مشغلا دائما للمؤرخين والإنتربولوجيين تجاه الفُلان، بين من يرى أنهم شعب عربي أصيل، تعرضت سحنته لشمس القارة الأفريقية وتحولات المصاهرة والانصهار في المجتمعات الأفريقية، مع المحافظة على جزء كبير من الهوية الخاصة والسحنة المائزة، للأمة الأفريقية "الحمراء".
وتزخر كتب التاريخ وكتابات الباحثين بروايات كثيرة حول أصول الفُلان، حيث يعتبرهم مفكرون أفارقة من بينهم العالم والمؤرخ السنغالي الشيخ آنتا جوب، جزءا من المصريين القدماء، ونازحين من حوض النيل، وقد انطلقوا في هجرات متتالية أخضعت مناطق كثيرة من غرب أفريقيا لسيطرتها، وتتحدث رواية أخرى أنهم ينحدرون من بلاد النوبة في شمال السودان.
في حين يذهب آخرون إلى أن الفُلان عرب أقحاح وأغلبهم من نسل الخليفتين الراشدين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وورد ذكر لعروبتهم في شرح الزبيدي للقاموس المحيط، كما ورد في جمهرة أنساب العرب تحت مسمى "بنو فلان".
ويذهب مؤرخون غربيون إلى أن الفُلان هم خليط بين اليهود وقوميات رومية أخرى وقد أدى نزوحهم الأفريقي إلى تغير سحناتهم.
وينقل الباحث السوداني الحارث إدريس الحارث في مقال له عن أصول الفلان تأكيد محمد سليمان الطيب مؤلف "موسوعة القبائل العربية" أن الفلان عرب، بيد أن الدعاية الفرنسية ردت أصولهم إلى اليهود.
كما ينقل عن النسابة السوداني عثمان حمد الله في كتابه "دليل العارف" قوله إن "فلانة بالنون من قبيلة حمير العربية".
ويرى الباحث محمد سالم ولد الخليفة في كتابه "الفلان والسونينكي في موريتانيا" أنه أمام تعدد الآراء والنظريات حول أصل الفلان، كان لا بد من اتخاذ مقياس على أساسه يمكن الترجيح فهل يكون ذلك المقاس الشكل الجسماني المتميز، أم الوطن، أم يكون اللغة؟
فعلى أساس الشكل ذهب بعض الباحثين إلى أنهم خليط من عدة أجناس حدث بينها امتزاج ومصاهرة أدت إلى تمييزهم كجنس له خصائص مجتمعية من كل تلك الأجناس.
وعلى أساس أفريقيتهم نسبهم بعض لباحثين إلى الأصل الحامي، وهو ما رفضه آخرون، بينما اعتمد البعض على التحليل اللغوي ليخلص إلى أن أصولهم تعود إلى عرب اليمن.
وبين هذه الآراء المختلفة لا يبدو أن كثيرا من الفلان يرضون بغير الأصل العربي بديلا وبالإسلام دينا وهوية حضارية.
ويمتاز الفُلان بصفات مائزة من بينها اللون الأحمر المائل إلى السمرة في الغالب، والأنف الأقنى وطول القامة، وفي بعض الأحيان يكون اللون الأبيض غير قليل في بنات وأبناء الفُلان.
ويعيش الفُلان غالبا في أخصاص ومساكن مشادة من الطين أو من الأخشاب، وتسير حياتهم خلال ظعنهم وإقامتهم على النسق ذاته، يقودها مسار الأبقار في رحلة أبدية بحثا عن مواطن الكلأ ومساقط الأمطار.
في مواجهة نيران مكافحة الإرهاب
مع اشتعال الأزمة في منطقة الساحل، والحضور اللافت لعدد من عناصر الفلان في قيادة بعض الجماعات المسلحة بالمنطقة؛ وجدت القبائل الفلانية نفسها في معمعة الأزمة، قبل أن تتعرض للاستهداف بعد أن تم تصنيفها من بعض الدوائر الغربية حاضنة أساسية لهذه الجماعات.
وسعت هذه الدوائر إلى تحميل هذه القومية الموزعة على أكثر من 18 بلدا المسؤولية عن وجود وتمدد جماعات متعددة مثل بوكو حرام في نيجيريا، وجبهة تحرير ماسينا في مالي بقيادة آمادو كوفا، وتصنف الحركتان المقاتلان ضمن أخطر الجماعات المسلحة في العالم وفي أفريقيا بشكل خاص.
فقد باتت حركة تحرير ماسينا على سبيل المثال إحدى أكثر الجماعات المسلحة قوة ونشاطا في مالي، وأكثرها تنفيذا للعمليات ضد القوات المالية والفرنسية والدولية بشكل عام، في حين كان الفُلان بشكل خاص القومية الأكثر تعرضا لانتقام القوات المالية والدولية، حيث وقعت قراهم ضحية لعشرات المذابح المؤلمة والقصف المتكرر، مما أجبر عشرات القرى الفُلانية على النزوح إلى بلدان ومناطق أخرى.
وإلى جانب الحرب على الجماعات المسلحة التي ينشط فيها شباب من الفُلان، فقد نالت هذه القومية انتقامات وتصفيات عرقية على يد قوميات وجماعات أخرى، حيث تعرضوا لانتقام وحشي من مسلحي قومية الدوغون في مالي وبتغطية ودعم من القوات المالية الرسمية حسب ما يقول نشطاء الفلان.
وبين سوط التاريخ وسطوة السياسة ونيران "الإرهاب" والعنف العرقي والديني في غرب أفريقيا، يبقى الفُلان عنوان قصة حضارة إسلامية عريقة عاشت في رحلة أبدية خلف البقر.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية