إذا استثنينا أول لجنة تم تعيينها لتولي مهمة تسيير وتوزيع موارد صندوق الدعم العمومي، والتي رفعت الحرج عن نفسها بإعلانها معايير واضحة ومحددة لقبول ملفات استفادة (المؤسسات) الصحفية، ثم وضعها حزمة من المعايير الواضحة لتنقيط ملفات المؤسسات المستفيدة، واحترامها للبنود المنصوص عليها في القانون، إذا استثنينا تلك اللجنة، التي خرجت نظيفة في عملها وفي نتائجها، يمكننا القول إن أغلب اللجان اللاحقة وجدت نفسها في دوامة من التيه حيث لا معايير واضحة ولا شروط محددة لاستقبال ملفات الاستفادة رغم أن الأمر يتعلق بأموال دافعي الضرائب وهو موجه لدعم الصحافة الجادة وليس لأدعياء المهنة، كما أنه ليس صدقات توزع مجانا على أصحاب التراخيص وأعضاء اللجان المتلاحقة.
وهكذا نجد أن تحديد شروط لاستقبال الملفات لدى سكرتاريا اللجنة ثم تحديد معايير مهنية واضحة وإعلانها عبر النشر في الوسائط المتاحة يعتبر أهم خطوة من شأنها إخراج نتائج شفافة وإزاحة الحرج عن اللجنة التي تريد أن تخرج بنتائج شفافة ونزيهة وأن ترصد الدعم العمومي لمن يستحقونه فقط.
ولأن الأمر لا يبدو بهذا الوضوح، حتى الآن على الأقل، ولأن أعضاء اللجنة الحالية لديهم تجارب هامة ومعتبرة في الحقل الصحافي الوطني وأغلبهم لديه تجربة سنتين وأكثر في عضوية اللجنة، فإننا نتوقع عملا متميزا، نزيها وشفافا يتم إعلانه بدءا بالمعايير وانتهاء بالتنقيط لأن الأمر، كما أسلفت، يتعلق بأموال دافعي الضرائب ويفترض أن يستفيد منه من يخدمون الشعب ويقدمون خدمات إعلامية للبلد.
الصحافة المكتوبة بلا يوميات سنة 2019 و(صحف الريزو) ظهرت فقط مع إعلان اللجنة؟!
من بين عناصر الملف التي طلبتها اللجنة هذا العام، ثلاث نسخ من ثلاثة أعداد من كل صحيفة ورقية تتقدم لطلب الاستفادة دون أن تطلب اللجنة مثلا ثلاثين نسخة بالنسبة لليوميات ونسخة بالنسبة لنصف الشهريات، ولا شك أن مساواة الصحف في الأعداد المطلوبة ينم عن إدراكها، كما الرأي العام، أنه لم تصدر يومية واحدة في البلد خلال العام الجاري، كما لم ينتظم صدور أسبوعية واحدة كما كان عليه الحال قبل هذا العام، لذلك نتوقع أن اللجنة تراعي ذلك وستضع الصحف الورقية في تصنيف واحد فيما تتفاوت في مهنيتها وأقدميتها وإنتاجيتها وباقي عناصر الملف المطلوبة، فهل هذا التوقع صحيح أم لا؟
وفي ذات السياق جرى الحديث على نطاق واسع عن سحب خاص جدا قام به مسؤولو العديد من الصحف التي لم تظهر منذ سنوات وخاصة في العام الجاري، حيث دفع أصحابها مبالغ محددة لسحب كميات قليلة من ثلاثة أعداد بتواريخ تناسب الشرط المحدد في بيان اللجنة، إلى جانب استقبال سكرتاريا اللجنة لعشرات الملفات التي تضم (صحف الريزو) وهي (صحف) أقرب إلى منشورات داخلية منها إلى صحف جادة، خاصة وأن هذه وتلك لم تصل القارئ وهو ما يعني، ليس فقط مغالطة للجنة وإنما للرأي العام وللسلطات المعنية التي يفترض فيها تحمل المسؤولية لإصلاح قطاع فاسد كقطاع الصحافة الخاصة في بلدنا لا المساعدة في تمعييه.
وفوق هذا وذاك نجد أن سكرتاريا اللجنة استقبلت هذا العام، كما في العام الماضي، ملفات 89 صحيفة ورقية، فهل قرأ المواطن نصفها وكم يعرف من عناوينها ومعالجاتها التي تهم المواطن؟ وباختصار هل توجد في بلدنا 89 صحيفة تصدر حتى الآن أم أن الأمر يتعلق بتراخيص فقط، خاصة وأن الصحف الصادرة هذا العام بكل تعثرها لم تتجاوز 11 صحيفة ورقية ؟!
وهكذا فإن لجنة تسيير موارد الصندوق تجد نفسها أمام أحد أبرز التحديات وهو تطبيق القانون وفرض احترام الرأي العام والالتزام بإصلاح قطاع يعتبر أحد أولويات الديمقراطية ودعاماتها وهو قطاع السلطة الرابعة. ولا شك أن خبرة وتجربة ونضج اغلب أعضاء اللجنة كفيل باتخاذ الموقف السليم في مثل هذه الحالات، فهل تنجح أم "تتجاوز" كما "تغاضت" أغلب اللجان السابقة؟
بند سحب الصحف؟
تم خلال السنوات الماضية الاجتهاد من طرف اللجان المتعاقبة بخصوص البند المالي المخصص لدعم سحب الصحف وقد كانت بعض الاجتهادات صائبة ومقبولة مثل تحديد عدد الصحف التي تمت طباعتها لدى المطبعة الوطنية ودفع مستحقات هذه الأخيرة وفق ذلك مقابل تخفيض تكاليف السحب، لكن الخطأ القاتل الذي ارتكبته اللجنة المنصرمة هو توزيع المبلغ المخصص لدعم السحب، والمنصوص عليه في القانون، على المواقع والتلفزيونات والإذاعات والصحف بصورة حرمت الصحف من الطباعة بأسعارها الاعتيادية خلال السنة الجارية حيث رفعت المطبعة الوطنية سعر السحب من حدود 15000 أوقية قديمة إلى 37000 أوقية قديمة بسبب عدم تحويل مبلغ دعم السحب إليها من طرف لجنة تسيير الصندوق وتوزيعه على مؤسسات غير معنية ببند السحب؟! فهل تقع اللجنة الحالية في ذات الخطأ وتسهم بإرادتها في مواصلة القضاء على الصحافة الورقية التي هي أم الصحافة ودعامتها عبر العالم؟
المنظمات الصحفية تجاوزت 25 منظمة ؟!
وهناك تحد آخر يواجه اللجنة المعنية ويتمثل في استقبال السكرتاريا التابعة لها لملفات تقارب 25 ملفا تحمل أسماء منظمات صحفية أغلبها غير موجود سوى كتراخيص ولم يسبق لها عقد مؤتمر واحد ولا تنظيم أي نشاط منذ ترخيصها !! فهل ينطلي ذلك على اللجنة أم أنها تدرك حقيقة هذا التمييع المتعمد والأهداف الحقيقية لمن يقفون وراءه، وهل يمكن لبلد كبلدنا أن يستوعب 25 منظمة صحفية بين نقابة للصحفيين ورابطة واتحاد للمؤسسات ؟
المواقع الالكترونية تحد آخر ...
لا شك أن ظاهرة انتشار وتوالد المواقع الالكترونية في بلدنا هي ظاهرة غريبة ولا توجد على هذا النحو المثير للاستغراب في بلد آخر حتى ولو كان تعداد سكانه أضعاف سكان بلدنا، فأي مبرر لهذه الظاهرة سوى اعتماد إجراء التصريح بدل الترخيص؟ ثم إن قرابة 80% من هذه المواقع تعتمد النسخ واللصق بنسبة 100% وأغلبها تدار من غير أهل الاختصاص كما أن اغلبها لا يملك مقرات ولا يشغل صحفيين ولا عمالا، أي أنه لا يقدم أدنى خدمة لدافعي الضرائب لا من حيث المادة الإنتاجية ولا من حيث الاستفادة المادية لمواطنين (عمالا) من التصريح له بممارسة المهنة!!
معيار المقروئية من يحدده وكيف؟
كما أن معيار المقروئية هو معيار ضبابي في بلدنا مع ظاهرة (الترويج) عبر موقع آليكسا الذي يتيح للموقع التقدم بسرعة بواسطة قراء وهميين سواء داخل البلد أو خارجه، مما جعل مواقع عريقة، ظلت موجودة منذ بدايات الانترنت في بلدنا، تتذيل الترتيب المعتمد بسبب ظاهرة الغش وما يسمى "التسمين"، حيث نعتبر نحن البلد الوحيد في العالم الذي يعتمد ترتيب المواقع على إحدى منصات "جمع المواقع" كمعيار للمقروئية رغم أن القائمين علي تلك المنصات لا يجدون تفسيرا لهذه الظاهرة ولا حلولا لتعقيداتها، فكيف ستتعامل اللجنة مع معيار المقروئية إذا قلنا إن باقي المعايير، كالمهنية والإنتاجية وإيجار المقر وعدد العاملين ومعدلات رواتبهم وغير ذلك، هي معايير متاحة؟!
تطفل السمعيات البصرية
وفي سياق ذي صلة يجدر بالذكر أن موارد صندوق الدعم العمومي كانت مخصصة في الأصل فقط للصحافة الورقية قبل أن تضاف لها المواقع الالكترونية بــ (جرة قلم)، دون ذكر لها في المرسوم المطبق، كما حدد المشرع كل البنود ووضح المعايير وأوجه الصرف، ولكنه لم يذكر الإذاعات والتلفزيونات ضمن قائمة المؤسسات الصحفية المعنية بالاستفادة لأن لها مواردها الخاصة بها والتي لا يستفيد منها غيرها من المؤسسات الإعلامية الخصوصية، فكيف يتم قبول هذا التجاوز الصريح للقانون المنشئ لصندوق الدعم العمومي؟!! وهل تملك اللجان المتعاقبة صلاحية لي عنق القانون لفرض استفادة جهات لم تحدد أصلا من طرف المشرع كجهة معنية بالاستفادة من هذه الموارد ؟!
وعلى العموم فإنني لم أوجه هذا الكلام لأي جهة بغرض حرمانها من الاستفادة من موارد مالية من أي نوع، وإنما بغرض احترام القانون والمواطن دافع الضرائب والحد من الفوضوية التي يشهدها قطاع الصحافة الخاصة منذ ما قبل العام 2000 وهي الفوضى المتواصلة دون أن تلوح في الأفق بوادر إصلاح تمكن من إبراز صحافة مهنية مسؤولة وملتزمة في بلدنا هو بحاجة ماسة إلى دورها الرقابي والتنويري أكثر من حاجته إلى الأحزاب وباقي المؤسسات السياسية.
وفي الأخير أعتقد أنه آن لنا أن نوقف هذه الفوضى بالقانون وبالقانون فقط، وأن نراجع النصوص والتشريعات ذات الصلة حتى تتحقق تطلعاتنا المشروعة في تمهين الصحافة الخاصة لتؤدي دورها التنموي المنوط بها على أكمل وجه بعيدا عن التمييع الذي فرضته أنظمة سابقة خدمة لأجنداتها التدميرية ودعمتها في ذلك المسعى بعض لجان تسيير وتوزيع صندوق الدعم العمومي للصحافة الخاصة.
أحمد ولد مولاي امحمد - إعلامي